دعوة للِتَّفْكِير

 

إن

 جوهر الدين، هو مسألة علاقة الإنسان بالله. وهذه العلاقة هي أول ما يجب أن يتساءله كل إنسان مفكر، إذ أن كل شيء مرتبط بها. فإذا ما اكتشفنا الإله الخالق، علينا أن نستخلص ما يترتب على ذلك، بمعنى أن كل شيء يأتينا منه تعالى، ونحن عائدون إليه. فلا ندعي حينئذ، أن نعيش كما يتراءى لنا، بل أن نعيش حسب إرادته.

ولكن كيف نعلل وجود هذا العدد الكثير من الديانات المختلفة والمتناقضة في العالم؟ وهي ديانات لم يخل منها زمان؟ إن الكثير من هذه الديانات قديم، حيث يرجع إلى آلاف السنين، ويدين بها جماعات عديدة من الناس، يبلغ عددها أحياناً مئات الملايين، كما أن لهذه الديانات كتبها المقدسة، وتقاليدها المحترمة.

إن لكل دين فقهاؤه وعلماؤه، الذين كتبوا العديد من المؤلفات لتفسيرها، وإثبات حقيقة كل واحد منها، وفي كل واحد من هذه الديانات تجد المخلصين والأتقياء، الذين يمارسون دينهم بكل إخلاص، وهم مستعدون أن يقدموا حياتهم في سبيل عقيدتهم . . . وتتواتر عن هؤلاء خوارق، أتى بها مؤسس الدين أو من يقوم بنشر دعوة ما، كما أن لكل دين معابده الفخمة، وأماكن حجه، حيث يجتمع الحجاج بأعداد ضخمة. . . وكل دين يدَّعي أنه وحده الدين الحق، فيحتقر الأديان الأخرى، ويتهمها بأنها على ضلال وجهالة.

لكن، هل جميع هذه الأديان على حق؟ 

يستحيل ذلك، إذ أنها تتناقض تناقضاً صارخاً فيما يتعلق بمسائل في غاية الأهمية. هل جميعها على ضلال؟ هل أهمل الله البشر، بحيث أنه لم يمنحها نوراً كافياً أو إمكانيات تستطيع بمقتضاها أن تعثر على الصراط المستقيم أو يرشدها للطريق القويم؟ يستحيل أن يكون هذا الأمر أيضاً كذلك، إذ أن الله صالح ويحب الخير لجميع الناس، خلق الإنسان حتى يخدمه بالحق.

لكن لماذا كل هذا العدد الهائل من الديانات المتناقضة؟ 

علينا أن نعلم قبل كل شيء أنه يوجد في كل دين قسط من الحقيقة والخير والصلاح، وغالباً ما يكون مؤسس الأديان أناساً أتقياء سعوا، ولو في فترة من حياتهم، أن يحققوا مشيئة الله، وأن يسيروا في الصراط المستقيم. ولكن الطبيعة البشرية المعرضة للزلل والبيئة الجاهلة التي يعيش فيها هؤلاء، وتراث محيطهم وتقاليده التي يسلمون بها كأنها بديهيات، وكبرياءهم الناتجة عن نجاح باهر، وعدم تمييزهم بين ما هو بشري وما هو إلهي وبين أهدافهم المادية وما يريده الله، كل هذه العوامل تختلط وتتفاعل وتجعلهم يضلون الطريق التي ساروا فيها أولاً. وهكذا أصبحت اغلب الديانات خليطاً معقداً مما هو حق وباطل ومما هو حسن وقبيح ومما هو إلهي وبشري. 

ولكن ليس ما في الدين من روائع وثروات دليل ضروري على صحة هذا الدين. لما كشف الله عن ذاته إلى موسى في الصحراء وأعطاه الوصايا كان هناك عدد كبير من الديانات تفوق آلاف المرات ديانة موسى بما تتألق به هياكل فخمة وتماثيل ذهبية وكهنة وعلماء وكتب في حين لم يكن شعب الله المختار سوى قبائل بدو رحل بؤساء هائمين في صحراء سيناء. فليس من السهل معرفة الطريق التي يريدها الله لا سيما إذا ولد الإنسان في بيئة يدين فيها أهله وأعضاء أسرته وقبيلته وأمته وعرقه بدين معين ويمارسون هذا الدين.

لا شك في أن الدين الذي ورثناه عن آبائنا ليس هو حتماً الدين الحق . . . لأن الدين غير مقيد بمكان، عن ما تعلمناه وما فرض علينا في حداثتنا حينما كنا غير مسؤولين عما نفعل وعاجزين عن أن نميز بين الحق والباطل، يجب ألا يوجهنا مدى الحياة. فبالنهاية على كل واحد، عند بلوغه سن النضوج والمسؤولية أن يتساءل من يجب عليه أن يعبد ويتبع ويخدم.

كيف السبيل إلى الله؟ وهل تقاليد عائلتي وبلدي هي الضمان الكافي لترشدني إلى هذا السبيل؟ فعلى كل إنسان يحترم نفسه أن يبحث عن الحقيقة وهذا من أهم واجباته، يجب عليه أن ينكب على الدرس بكل انتباه باحثاً عن الطريق الحق المؤدي إلى الله، وذلك مهما تكن الظروف والأوضاع المحيطة به ومهما يقول عنه الذين يحيطون به.

فمن العجب أن نرى الناس في كل مكان يقبلون أن يعيدوا النظر في مواقفهم الفكرية وفي تقاليدهم سعياً وراء الحقيقة التي يرحبون بها مهما كان مصدرها، وذلك في جميع المجالات عدا مجال الدين. فإذا برز اكتشاف علمي في مكان، هبَّ علماء العالم من كل صوب لدراسته والتحقق منه، فإذا ما تحققوا منه وظهرت لهم منفعته تبنوه مهما كان مصدره، والأمر على خلاف ذلك فيما يتعلق بالدين.

لأنني ولدت في إسرائيل ولأن والدي يهودي سأكون يهوديا وسيكون التوراة كتابي المقدس الوحيد، لأنني ولدت في بنكوك ولأن والدي بوذي سأكون أنا بوذيا وسيكون بوذا معلمي الوحيد. لأنني ولدت في مكة ولأن والدي مسلم سأكون أنا أيضاً مسلماً طول حياتي وسيكون القرآن كتابي المقدس الوحيد. لأنني ولدت في روما ولأن والدي مسيحي كاثوليكي سأكون أنا أيضاً مسيحيا كاثوليكيا وسيكون الإنجيل القاعدة الوحيدة لحياتي . . . لأنني ……لأنني ………

وبالمقابل، ليست المسيحية وحدها التي تدعوا الناس إلى التفكير واستخدام العقل في الأمور الدينية، إذ ترفض كغيرها من الأديان الأخرى، خاصة الإسلام، اتباع دين الآباء، او ما يسمى بالدين المتوارث، فقد جاء في القرآن:

 

وإَذا قيلَ لَهُمُ اتَّبعُوا ما أَنْزَلَ الله، قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ ما آلْفَيْنَا عَلَيْه ءابَآنا، أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآُِهُمْ لاَ يَعْقلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ.سورة البقرة2: 170

وَإذَا قيلَ لَهُمْ تَعَالُوا إلَى مَا أَنْزَلَ الله وَإلَى الرَّسُول قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْه ءَابَآئَنَا، أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ. “سورة المائدة5: 104

 

ولكن هل يعقل ذلك؟ هل الدين مرتبط بالبيئة الجغرافية؟ من الواضح أن الدين لا يبرهن عليه ولا يختبر كما تختبر النظرية العلمية ولكن هناك أساساً تاريخياً للدين يمكن التحقق منه. إن الإيمان لا يبرهن عليه، إلا أننا نستطيع أن نبرهن على الأسباب التي بمقتضاها نعتقد بحقيقة ما ونفضلها على أخرى، كما وأننا نستطيع أن نميز بكل تأكيد بين من تكلم باسم الله عمن يخدع الناس أو يكون هو متوهماً. نحن نعجب عندما نلاحظ الناس على استعداد أن يعيدوا النظر في كل شيء ما عدا العقائد الموروثة عن الأجداد وهم يقبلونها دون تمحيص.

 

ولكن كل منا مسؤول شخصياً عن هذا الأمر اكثر مما هو مسؤول عن أمر آخر. ففي يوم الدينونة لن يسألنا الله عما إذا كنا اتبعنا عقائد أجدادنا واحترمنا تقاليدهم أو لا. إن السؤال الوحيد سوف يكون: ” هل سعيت إلى أن تعرفني وتحبني وتخدمني وتحقق إرادتي؟” ماذا ستكون قيمة أعذارنا آنذاك؟

 

إذا ما ضللنا الطريق ولم نعثر على الله ونحن نبحث عنه بكل حرارة، حينئذ يرحب بنا الله ويسامحنا ويكافئنا على مسعانا الذي قمنا به بإخلاص وحرارة. وهل يهتم الله بإنسان ولد صدفة على الدين الحق ولكنه لم يبذل أي مجهود في حياته للبحث بجدّ عن وجه الله الحي؟

كذلك الحال بين البشر، إذا ما قدم لنا شخص فقير هدية صغيرة غير مناسبة كلفته جهداً كبيراً فيكون سرورنا واعترافنا بالجميل أكثر مما إذا قدم لنا شخص غني هدية فخمة ولم يكلف نفسه عناء الذهاب إلى السوق ليختارها.

فواجبنا الأول إذا أن نقف على إرادة الله وأن نعيد النظر فيما تعلمناه في صغرنا ونتمحَّص أساسه ونزن ثقل البراهين التي أعطيت لنا. هل من خسارة في ذلك؟ إن كنا في الصراط القويم تصبح الحقيقة أكثر تأكيداً لدينا ونصبح ناضجين في إيماننا إذ يكون الإيمان الذي نعتقد به إيماننا وليس إيماناً موروثا. أما إذا اتضح لنا أننا ضللنا الطريق فسنكتشف إرادة الله بفرح وسرور ونتبعها بكل حرية.

هكذا الحال في جميع ظروف الحياة، إن الإحترام الذي يكنه التلميذ لأستاذه لا يمنعه من أن يحقق الفرضيات ويعتنق النظريات العلمية أو الفلسفية بعد أن يكون فحصها فحصاً دقيقاً. يريد الإنسان أن يتصرف في جميع أفعاله وآرائه تصرف الناضج المسؤول . . . ولكنه لا يفعل ذلك فيما يتعلق بالدين حيث أكثر الناس يظنون- بسبب خوفهم في مرحلة الطفولة، فلا يزالون يعرضون ويقدمون مبادئ خاطئة واعتقادات مضحكة لا أساس لها. ولماذا ذلك؟ إنهم يخشون ماذا سيقال عنهم أو أنهم غير مبالين أو كسالى أو جبناء أو جهلاء. . للخوض في هذا البحث يجب أن نحترم الله، أن نحبه وأن نفضل الحقيقة على رغد العيش، وأن نعيش كأشخاص لا كأفراد في قطيع، يجب أن نختار الله وليس نفسنا وراحتنا، يجب أن تكون لنا الشجاعة حتى نفكر ونعيش حسب ضميرنا. إن هذا ليس بالأمر السهل، يجب أولا أن نكون في حالة استعداد لتقبل الحقيقة الإلهية من أي مصدر كانت ومهما كلف الأمر. . . شرط أن تأتي من الله.

وعلينا أن نصلي كثيرا: “ربي إني أومن بكل ما أوحيت به، أومن بما وصلني وبما أجهله حتى الآن، زدني علماً وإيماناً وشجاعة حتى أتبعك دائماً حيثما تريد. آمين 

اكتب تعليق